حكاية صحافي مع مطاردة الخبر.. مهنة المتاعب وقصة مصطفى العلوي مع “خريزو”.

مهنة المتاعب وصفٌ له مدلوله الملموس على أرض الواقع، فليس سهلا أن تكون صحفيا يطارد الخبر من أجل تجسيد الرسالة المنوطة بالإعلامي، لهذا، أحكي لكم قصة وقعت لي منذ سنوات قليلة، لعلّنا نستخلص العِبر ونتعلم أن نحترم الواجب الوظيفي للصحفي المهني، فهو يقدم خدمة خبرية للرأي العام، وينقل مايجري ويدور في البلاد، وإذا تعلق الأمر بشخصيات معروفة تتقلد مناصب في الدولة أو الهيئات المنتخبة وغيرها..فهي بالضرورة شخصيات عمومية تحت الأضواء.

وصلتني معلومة طازجة خرجت من الفُرن/ المصدر، تتعلق بوفاة والدة شخصية عمومية مُعتبرة في الدولة،ومعلوم أن مثل هذه الأخبار لا تكون عادية لمّا تهم مثل هذه الأسماء الوازنة،الشخصية المعنية هي منير الماجيدي مدير الكتابة الخاصة للملك، توفيت والدته المرحومة، وكان لا بد للحدس المهني أن ينتقل فورا إلى عين المكان.

إرتديت بذلة بربطة عنق،واتجهت بسيارتي إلى مقبرة بحي الرياض بمحاذاة مرجان، صليت مع الناس صلاة الجنازة على السيدة تغمدها الله بواسع رحمته، بعد الخروج من المسجد إلتقيت العديد من الشخصيات أمثال أمزازي والمدير العام لشركة العمران ونخبة من رجال الأعمال، لكن ما إسترعى إنتباهي خلو الجمع الحاضر من رجال الدولة والسياسيين على الأقل الوجوه المعروفة في مراكز القرار، إستغربت في قرارة نفسي من هذا الغياب الكبير. لوهلة، وجدت نفسي أدخل إلى المقبرة القريبة من المسجد، مقابل المدخل توجد حفرة مهيأة للدفن، كانت مخصصة لأم الماجيدي.وقفت بجوار الحفرة وشرعت في تشغيل عدسة كاميرا الفيديو من هاتفي المحمول، أصور الوجوه في ولوجها إلى المقبرة من أجل تهيئ مادة خبرية لدى عودتي إلى مقر المؤسسة الإعلامية. تقاطر الجمع الغفير فُرادى و زُرافات على المقبرة لحضور مراسم الدفن، وبين هذه الجموع شاهدت الماجيدي رفقة أخيه وشخصان آخران يحملون النعش، بينما علامات البكاء والحزن الشديد تعلو مُحيَّا منير وشقيقه وأفراد من عائلته، مرُّوا بجواري حاملين جثمان الأم.

وبعد الولوج إلى المقبرة كان منير وعائلته بالجلابيب البيضاء والطرابيش الحمراء يذرفون الدموع، وبين الفينة والأخرى يمسح عينيه بمنديله ، كنت الصحفي الوحيد الذي يلتقط الصور  مقاطع فيديو، لم يجرؤ أي احد على إستفساري بشأن التصوير، ضجّ المكان بجموع غفيرة، وبدأت تلاوة القرآن كما هو معهود في الجنائز.ثم، عمَّ السكون لحظة الشروع في الدفن،  ووسط الزحام وجدت نفسي بين شخصين أحدهما بشرة وجهه سوداء والآخر أبيض،أثناء  إنشغالي بعملي ملتقطا الصور، قال لي أحد هاذين الشخصين:

ـ واش أنت من عائلة الماجيدي؟

ـ قبل ان اجيبه وضعت هاتفي في معطفي: لا أنا صحافي

بمجرد أن أجبته قفز من مكانه كأنه تعرض لصعقة كهربائية، وبدأ يرغد  ويزبد قائلا ما معناه أن ذلك غير ممكن، هنا ممنوع على الصحفيين..واش الناس في حالة الحزن وأنت كتصور..

قلت له: ـ منير الماجيدي شخصية عمومية، ونحن نتشارك  القرح والفرح

طبعا، كان الحديث الذي دار بيننا مهموسا.

وبكل صلابة أمسكني بخشونة مُستفزة من رُسغ يدي، وقال لي:

ـ الآن،عندك حل واحد، أعطيني هاتفك

ـ فاجبته لن تحصل عليه إذا تعاملت بهذا الاسلوب ( وكان يحاول جاهدا عدم إثارة الإنتباه) وأضفت :

ـ بهذه الطريقة لن نصل إلى حل،أنا صحفي مهني، لو طلبت بأدب ودبلوماسية وليونة سنصل الى حل.

ليَنبري الآخر الذي مان يتابع النقاش الدي دار بيني وبين زميله، قائلا :

ـ صَورناك ( وأخرج هاتفه من جيبه مُبرزا الصور التي إلتقطت لي من طرف عناصر آخرين أرسلوها له عبر الواتساب وأنا ألتقط الصور.

  ثم،سحب يده وطلب مني بهدوء أن أمحو الصور، قلت له الآن تفاهمنا.بدأت أمحو الصور الواحدة تلو الأخرى حتى أفرغت الهاتف أمام نظر احدهما معاتبا لهم على سلوكهم،ولأن الصحفي لديه حاسة الإحتياط كنت أحتفظ بكل الصور ومقاطع الفيديو في ملف مخفي .

يخيّم جو الحزن، والكل يصمت بينما العائلة تبكي بحرقة، دارفي ذهني أن أنسحب بهدوء وأنسل من هذا الجمع قبل أن يتفرق ويتحلق حولي” أصحاب الحال” ويحاولون ممارسة تلك السلطوية البائدة ،فعلا ذلك ماشرعت في تطبيقه، إنسللتُ إلى الخلف من المقبرة متجاوزا المدخل القريب منها،وما إن خرجت.. فجأة يطلع من حولي يمينا ويسارا عنصريين من الأمن يصرخان:

ـ آجي..آجي..أنت اللّي كنتي كتصور

ـ وايلي آصاحبي ديجا هضرت مع صحابكم ،وحلينا المشكل بالتي هي أحسن

ـ لا ..لا..آرا لي التليفون

أخرجت الهاتف حتى أبين له محو للصور..حاول أخذه ،نهرته. قلت في نفسي أن هاذان العنصران لهما دراية بتكنولوجية الهواتف..لكنهما لم يمونا يفقهان شيئا.قلت لهما أن زميليكما قد تابعا عملية محو الصور،فطلبا مني الإدلاء بالبطاقة المهنية،أَريْتُهَا لهما.إلتقطا لها صورة وقال لي بأنك الصحافي الوحيد الحاضر هنا الذي يصور، إذا نشرت الصور فسنأتي إلى دارك ونخرجك من رجليك في تهديد صريح يذكرنا بسنوات الرصاص.

ـ ودابا، لاش هاذ الأسلوب وهاذ الطريقة، ماكاين علاش، هادشي مسحناه وسالينا.

رافقوني حتى موضع سيارتي في خلاء مملوء بالأتربة،حتى ركبت وأغلقت الباب.أدرت محرك السيارة، مُلقيا نظرة على المرآة الخلفية وجدتهما قابعين في مكانهما إلى أن إختفيت عن الأنظار.

ذهبت إلى منزلي، تفحصت الهاتف، ظهرت لي مقاطع الفيديو.شرعتُ في التفكير في كيفية العمل، وقد تلقيت تهديدا من مغبّة النشر.إستلقيت لنيل قسط من الراحة، بعد دقائق يتصل بي مولاي مصطفى العلوي رحمه الله مدير الأسبوع الصحفي، وكنت أتعاون مع جريدته، سألني:

ـ هل حضرت جنازة المرحومة أم الماجيدي؟

ـ نعم، حضرت.

ـ من الشخصيات التي حضرت؟

ـ لم تكن هناك شخصيات وزارية بعينها..، كان أغلب الحاضرين من رجال ألأعمال والتقنوقراط

ـ ستذهب إلى سكرتيرة التحرير وتُسلّمها الصور.

رغم ردي بالإيجاب، إلا أنني لم أكن انوي الذهاب إلى الجريدة، نظرا لتجربة لي في التعامل لم تروقني.وكان العلوي قد حدد لي الساعة السابعة لتسليم الصور قبل وقت إرسال العدد إلى المطبعة.إتصل بي حوالي الساعة الثامنة وسألني عن عدم مروري على مقر الجريدة، حاولت أن ألتف على الموضوع مُتذرعا بعدم توفري على رقم هاتفها كي أحدد معها موعدا..، إلتقط المديرالخبير الإشارة وفهم بوجود حزازات بيني وبين الموظفة، ليطلب مني القدوم إلى منزله.

حملت حاسوبي الخاص، وإتجهت بسيارتي إلى طريق زعير شارع كينيدي( محمد السادس حاليا) جنب…..كيلومتر 10،إستقبلني ، فتحت الحاسوب وبدأت أعرض له الصور ومقاطع الفيديو، إتكأ المرحوم مولاي مصطفى على الوسادة، وتابع ثمرات عدسة الكاميرا، ووجهه متهلل علامة على رضاه وسروره، عاين الحاضرين من الشخصيات، ثم تحادثنا لمدة نصف ساعة.بعد ذلك فتحت له الموضوع الآخرحول عناصر البوليس والمضايقة التي تعرضت لها طالبين مني محو الصور وحاولوا مصادرة الهاتف بدون موجب قضائي ، وحول التهديد الذي تلقيته في حالة النشر،قلت له هذا سر بيني وبينك مولاي مصطفى..إنطلقت من قيدوم الصحفيين قهقهة كما لو أنها إستهزاء من هذا الموقف. وقال لي سأحكي لك قصة وقعت لي:

في وقت من الأوقات إجتمع الحسن الثاني مع شخصيات من الحركة الوطنية من رؤساء الأحزاب التاريخية في ذلك العهد حول موضوع ما، وأمرهم الملك بعدم تسريب فحوى الإجتماع خارج القاعة، لم يتعد المجتمعين مع الحسن الثاني أربعة أشخاص. مصطفى العلوي بلغته المعلومة من مصدره الخاص، فنشر الخبر في الجريدة.ليُرسل له الملك مرسولا منه مرفوقا بمخزني ليسلّمه رسالة مختومة، تسلمها العلوي وفتحها ليقرأها فوجد فيها عبارة “عليك الأمان، أن تخبرني بمن سرّب إليك مضمون الإجتماع”.تمعن مولاي مصطفي في الرسالة جيدا وأخذ مُهلة للتفكير، بعد هنيهة قلب الورقة وكتب على ظهرها “بعد فروض الطاعة والولاء لمولانا الحسن الثاني نصره الله…حضرت مؤتمرا في مراكش كنتم على رأسه، وضعتم يدكم  على كتفي وقلتم لي رأسمال الصحفي هو مصدره..”، وضع الرسالة في الغلاف وأغلقها ثم سلّمها للمرسول.  غضب الحسن الثاني عليه فأعطى أوامره بإدخال الصحفي إلى ” خريزو”ـ بتعبير مولاي مصطفى ـ، مكث الصحفي في ” خريزو” خمسة عشر يوما ونسوه،إلى أن ذكَّر أحمد عصمان الوزير الأول الملك بالصحفي المسجون..قال له الحسن الثاني”آآآآه.. نسيتو، خرجوه..خرجوه..”.

الدرس الذي أراد المرحوم مولاي مصطفى العلوي تبليغه لي، وهو أستاذ الأجيال الصحفية، بأن أحمي مصدري مهما كلفني من تضحيات ومهما دفعت من أثمان، فالرأسمال المهني للصحفي هو مصادر معلوماته.بعد ذلك، نشر العلوي السبق الصحفي الذي أنجزته في جريدته الأسبوع الصحفي، بعد أن دقق في الوجوه العمومية الحاضرة ومن غاب عن الجنازة،ولطالما في السياسة والدول كانت الجنائز مؤشر على تجاذبات النخب المتصارعة في الكواليس، لهذا إلتقط الصحفي المخضرم صورة للماجيدي وهو يمسح بمنديله المخاط عن أنفه المتورم من كثرة البكاء وإنفعاله كما هو حال كل الناس من يفقدون أحبتهم، بينما أنا شددت الرحال الى الاقاليم الجنوبية بعيدا عن تداعيات النشر المتوقعة، وعن صداع السياسة والفضوليين في العاصمة.