بقلم / ذ.ادريس الاندلسي
مفهوم الحكامة ليس قديما في مجال العلوم السياسية و الإدارية. أتذكر نقاشا بين فقيهين من فرنسا و من كندا في هذه العلوم بمعهد العلوم السياسية بمدينة بوردو الفرنسية خلال نهاية السبعينيات من القرن الماضي. اكتشفنا، كطلبة باحثين آنذاك، أن الحكامة ككلمة فهي قديمة و لكنها جديدة كمفهوم متعدد المضامين و المكونات و الأبعاد. فهي مؤسسات و برامج و شفافية و مراقبة و تأطير بشري و أهداف و أساليب عمل تشكل ما يمكن أن نشبهه بغرفة قيادة تضمن التحكم في المسار الكلي في إتجاه نتائج تغير واقعا معينا و تحقق أهدافا محددة و متجددة في كافة القطاعات.
أصبحت الحكامة في حاضرنا تستعمل بكثافة في الخطاب السياسي دون أن نرى آثارها على معيشنا اليومي و على العلاقات بين المواطن و المؤسسات و بين الحكومات و برامجها. و الدليل هو أن المتابع لتدبير الشأن العام ينظر إلى الوزير كفرد لا ينتمي لمجموعة تسمى الحكومة و نفس الشيء يمكن قوله عن رئيس مجلس ترابي و عن قاضي و عن مهندس و طبيب و عن مدير مؤسسة عمومية. نعيش تخمة في مجال الإجتماعات داخل الحكومة و داخل المؤسسات العمومية و المجالس الترابية و غيرها لنصنع تضخم الكلام و الخطابات و التوصيات و في بعض الأحيان لنزيد في قاموس الشتائم فظاعات جديدة. و النتيجة نتائج هزيلة لسياسات التهمت الكثير من المال العام و عزلة كثير من المؤسسات و تدهور أغلب آليات الوساطة السياسية و الإجتماعية.
الحكامة تتطلب قيادة واعية بدروها السياسي و قادرة على فتح الباب أمام المشاركة الفاعلة و ليس قيادة تسبح بقدرة تقنوقراط و قدرتهم على تجاوز الإختيار و الممارسة الديمقراطية. منذ سنين و المغرب يجرب ما يسمى ” بالكفاءات” . بعضها تمت صباغته سياسيا دون أن يتأثر سلوكه بهذا الانتماء الجديد او لنقل الطارئ . يشعر أنه نودي عليه لإنقاذ قطاع أو مؤسسة و غالبا ما يرفض مناقشة ما يراه صوابا و حقيقية مطلقة لا قدرة للكثير على استيعابها. و يوجد من ضمن هذا الكثير زملاؤه في الحزب و الذين فرض عليهم بوسائل تجيدها القيادات الهشة و المتجاوزة و المتقنة للكولسة و فرض الأمر الواقع.
الحكامة تنعت بالسيئة حين تخلف الوعود. و لنا في حكومات مرت حديثا و في الحكومة الحالية خير دليل. و الكل يعرف أن أغلب مكونات الأغلبية الحالية، التي تسيطر عدديا على مؤسسات التدبير العام من حكومة و برلمان و مجالس و مديريات، تحملت المهام الحكومية و غيرها منذ سنوات مضت. و رغم جلوسهم على الكراسي يفقدون القدرة على تذكر ماضيهم و عثراتهم.
و اليوم يتأكد أن الحكامة ” معطوبة” في بلدنا و أن السياسات الاستباقية كانت غائبة منذ سنين في قطاعات كالصحة و التربية و الماء و الصناعة و غيرها . تم رفع شعار تجويد الحكامة عبر التقاءية السياسات العمومية فغاب التنسيق و تضاربت المصالح داخل البيت الحكومي. و لنا في خطاب وزير الفلاحة السابق و رئيس الحكومة الحالي و حزبه خير مثال. تنكر لحليفه السابق و انهال عليه بالنقد رغم جلوسه إلى جانبه لأكثر من ثمان سنوات. و لقد أظهرت الأزمة المتعلقة بارتفاع أسعار المواد الغذائية الحاجة إلى تقييم حقيقي للسياسة الفلاحية المتبعة منذ 2008 عبر المغرب الأخضر و الجيل الأخضر. هناك شبه إجماع على أن هذه السياسة لم تحقق الأهداف التي خصصت للوصول إليها ملايير من الدراهم استفاد منها بالأساس أصحاب الاستغلاليات الكبرى دون أن نحصن طبقة الفلاحين الصغار و لا أن نحقق الاكتفاء الذاتي و لا أن نحدث طفرة حقيقية في الوصول إلى تنمية صلبة للقطاع. رفعنا الصادرات على حساب تدهور التربة و الفرشة المائية و تسخير المال العام لخدمة المستهلك الأجنبي. و في نفس زادت وارداتنا من المواد الغذائية ذات الأسعار المرتفعة المشكلة أساسا من المواد المصنعة. و لا دليل على سوء حكامة القطاع إلا ما جاء في الرسالة الملكية خلال اليوم الوطني للصناعة و التي ركزت على مفهوم ” السيادة الصناعية”.
و جاء تقنوقراط جدد و أصبحوا أعضاء في قيادات الأحزاب و ممثليها في البرلمان و الحكومة و المجالس الترابية. وزيرة قيل أنها خبيرة في مجال الطاقة تقول الشيء و نقيضه في شأن مصفاة لاسامير الموؤودة. ينخفض سعر البرميل منذ شهور و يستمر سعر البترول الذي خضع للتكرير في مستوى أسعار لا زال عاليا. ولا زالت الحكومة شبه جامدة في مجال إتخاذ القرار في شأن حل مشكل شركة لاسامير مع التفكير في الإستثمار لتوسيع الصناعة الوطنية لتكرير البترول الخام.
أزمة الحكامة خطيرة على المؤسسات و يزيد في خطورتها الخطاب غير المستقر لبعض الوزراء. الناطق الرسمي بإسم الحكومة يجسد تراجع التواصل مع الإعلام و يبين أن التراجع عن تصريحات سابقة في مجال المضاربين في المواد الغذائية عادي غير مكلف سياسيا. أما وزير القطاعات المتعددة في الإعلام و الثقافة و الشباب، و رجل الأعمال في مجال السيارات، فقد انبرى لتوجيه كلمات سياساوية لانتقاد بنك المغرب و المندوبية السامية للتخطيط. هذه الأخيرة لا تدعي أن عملها يمكن أن يقارن بالوحي و على الوزير أن يعلم أن عملها لا يقتصر على تقديم توصيات للحكومة. دورها كبير و متعدد التخصصات يتجاوز ما فهمه الوزير و سمعتها و خبرتها كبيرتين على المستوى الدولي. و لنا في خرجات ” أفراد الحكومة” البينة على أن بلادنا تستحق أن يدبر أمورها نساء و رجال اكفاء لا يضعون مصالحهم فوق مصالح الوطن. قد يقول بعضهم أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان. و لكن هذا الواقع صنع بإرادة و إصرار على اضعاف العمل السياسي منذ سنين.
أزمة الحكامة هي كذلك تجميد أدوار المؤسسات التشريعية و الرقابية و تبخيس دور المجتمع المدني. المعارضة البرلمانية تشتكي من فيتو الحكومة و اغلبيتها على كل ما تقدمه من مقترحات قوانين أو على دعواتها المتكررة لقيام لجان موضوعاتية لحل المشاكل الطارئة و تسريع إيقاع العمل الرقابي و الاقتراحي للبرلمان. المجتمع المدني الذي خصص له الدستور مكانة خاصة يرى فيه بعض الوزراء شبحا خطيرا حين يمس ملفات تهم الفساد المالي و الإداري و لذلك يجب أن تقص اجنحته على لا يقترب من المؤسسة القضائية للدفاع عن المال العام و القضايا الحقوقية.
الأمر يحتاج إلى هزة نفسية و سياسية كبرى لتنظيف البيت السياسي من أمراض لحقت به و جعلت من اضعاف الممارسة السياسية وسيلة لإضعافثقة المواطنين في مؤسسات بلدهم. الهزة النفسية يجب أن تدفع إلى تغيير حقيقي للقوانين التنظيمية للجماعات الترابية و القوانين الانتخابية لفرض الكفاءة و المستوى التعليمي المناسب لقبول الترشيحات مع تجريم حقيقي لما يدور من عمليات تجارية غير أخلاقية في “سوق الانتخابات”.
الحكامة الجيدة تتطلب القضاء على اقتصاد الريع و حماية المستهلك و شفافية الأنشطة الإقتصادية و خلق كل الظروف لتقوية روح المواطنة و ضمان شروط تقوية الانتماء للوطن عبر الإستفادة من التعليم و الصحة و الشغل و العدالة و الولوج إلى خيرات البلاد. الانتماء للوطن يتطلب الحد من الفوارق الإجتماعية و المجالية التي تزداد كل يوم. الأغنياء يزدادون غنى و الفقراء يزدادون هشاشة رغم الجهود التي تبذل لإرساء تغطية اجتماعية حقيقية و ليس مجرد تدابير معزولة غير ذات تأثير. الحكامة الجيدة المبنية على العدل الإجتماعي و المساواة أمام الولوج إلى المسؤولية و الثروة و السوق و المدرسة و المستشفى قد تدفع بأبناء مغاربة العالم إلى الإسهام الكبير في نماء المغرب و وصول الإقتصاد الوطني إلى مصاف الاقتصادات الصاعدة. الحكامة الجيدة تمكن من عبور الأزمات بقوة المؤسسات و ليس بضعف تدبيرها و تسخيرها لخدمة طبقة أو فئة اجتماعية على حساب أغلبية مكونات الشعب المغربي و دون محاسبة. سنظل نستثمر في البنيات الأساسية، و هذا جيد جدا، و لكن التنمية الشاملة تحتاج إلى تغيير ثقافة التدبير و ارساء نموذج جديد ليس بالخطاب و بعض الأرقام و التدابير الجزئية و لكن بالارادة السياسية المتشبعة بضرورة التغيير.