لا شك في أن الاستجابة السريعة لإنقاذ الاقتصاد العالمي من الانهيار بسبب جائحة كورونا، كانت إيجابية، خصوصاً حزم الدعم المالي والنقدي التي خففت آثار الأزمة، ولكن يبقى أن الجائحة فرضت واقعاً جديداً قد يؤدي إلى نظام اقتصادي دولي جديد.
وتأتي جائحة كورونا بعد قرابة 12 عاماً على الأزمة المالية العالمية في عام 2008، التي كانت حاضرة بقوة في أذهان صانعي السياسات الذين تعلموا منها كيفية إدارة الأزمة وأهمية حزم التحفيز النقدي.
ووفق عدد من التقارير، ستستمر معاناة الاقتصاد العالمي في وقت تتغير إدارته سريعاً بعد الجائحة. وقد تستغرق إزاحة الآثار الناجمة عن الأزمة أجيالاً. هذا في حين أوجدت الأزمة تأثيرات إيجابية جعلت الاقتصاد أكثر مرونة في التكيف مع الأوضاع غير المسبوقة.
وحسب تصريحات متخصصين لـ”اندبندنت عربية”، فرضت صدمة كورونا متغيرات إجبارية على صعيد الاقتصاد العالمي منها الإيجابي والسلبي على حد سواء.
وأضاف المتخصصون أن الاقتصاد الرقمي أصبح واقعاً إلزامياً لسير الحياة حول العالم خلال جائحة كورونا، وسيستمر هذا الواقع بعد انقضاء الجائحة، إضافة إلى أن سياسات العمل من المنزل أصبحت أحد أنماط العمل بعد أن أثبت نجاحها واستجابت لتداعيات الجائحة.
وتوقعوا أن تستمر معاناة الشركات الصغيرة، وقد يضطر عدد كبير منها إلى الإغلاق وسط الصعوبة في التكيف مع تداعيات الأزمة.
في سياق أخر، قال المتخصصون، “في وقت يتخذ صانعو السياسات في العالم الغني خطوات لتقليل التفاوتات في الثروة في بلدانهم، هناك خطر يتمثل في اتساع الفجوة بين الاقتصادات المتقدمة وتلك النامية، ولا يمكن للحكومات في البلدان الفقيرة أن تنفق بالقدر نفسه من الحرية لمساعدة سكانها أثناء الوباء من دون التسبب في التضخم أو تخويف المستثمرين الدوليين”.
حوافز مالية
وقال صندوق النقد الدولي، إن جزءاً كبيراً من الانتعاش الذي يشهده الاقتصاد العالمي، حالياً، نتاج قرابة 16 تريليون دولار من الحوافز المالية، وضخ السيولة من الحكومات والبنوك المركزية، بخاصة في الدول الغنية. وكانت الحكومة الأميركية قد تعهدت وحدها بنحو 5 تريليونات دولار في الإنفاق التحفيزي منذ بدء الوباء.
ويشهد الاقتصاد الدولي تعافياً بشكل أسرع مما توقعه عدد من الاقتصاديين، مدعوماً بالنمو في الولايات المتحدة والصين والوتيرة المتسارعة للتلقيح في عدد من البلدان الغنية. مع ذلك، فإن موجة جديدة من عمليات الإغلاق من أوروبا إلى كندا تهدد هذا النمو، إذ يتخلف عدد من الدول منخفضة ومتوسطة الدخل ذات الموارد المحدودة.
تغيير المسار
وقال طارق الرفاعي، مدير مركز “كوروم” للدراسات الاستراتيجية في لندن، إن أنظمة الاقتصاد الجديدة المتعلقة بالتصدي للجائحة حمت النظام المالي من الوقوع في صدمة جائحة كورونا، مؤكداً أهمية استمرار الدعم المباشر لاقتصادات الدول من قبل الحكومات والبنوك المركزية لمواجهة آثار الجائحة التي غيرت مسار الاقتصاد العالمي.
وأضاف الرفاعي، أن السياسة المالية حلت محل السياسة النقدية في نظام الاقتصاد الجديد، إذ وجهت الحكومات الأموال النقدية مباشرة إلى الأسر والشركات. ما تسبب في عجز قياسي في الميزانية، ولكن بقي هذا الدعم ضرورياً، فالآن الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل أساسي عليه، ولا بد من الاستمرار في هذه التحفيزات وإلا سنرى انكماشاً في الاقتصاد.
وأشار الرفاعي إلى أن البنوك المركزية لعبت دوراً ثانوياً وداعماً إلى جانب الدعم الحكومي المباشر، عبر شراء الديون الحكومية المتضخمة والأصول الأخرى، والحفاظ على تكاليف الاقتراض عند مستوى منخفض.
جرس إنذار
إلى ذلك، قال علي العدو، مدير إدارة الأصول في شركة ضمان للاستثمار ومقرها دبي، إن جائحة كورونا مثلت الحدث الأكثر أهمية على مدى القرن الماضي وأثرت على العالم بطرق لا تعد ولا تحصى، مشيراً إلى أن مختلف الأطراف المعنية قد بدأت النظر إلى الجائحة على أنها جرس إنذار يدعو إلى التعجيل في إجراء التغييرات التي لطالما كانت هناك حاجة إليها في عمليات الاستثمار الكلية، من أجل إيجاد موقف أكثر استدامة إزاء الاستثمار.
وأشار العدو إلى أن المقاييس البيئية والاجتماعية والحوكمة ينظر إليها الآن باعتبارها محوراً رئيساً لقرارات الاستثمار، إضافة إلى المقاييس المالية والتطورات المهمة الأخرى مثل زيادة انتشار خيارات الدفع الرقمي مثل العملات المشفرة.
وأضاف مدير إدارة الأصول أنه مع تزايد فائض المعاملات النقدية وتزايد عمليات الشراء من خلال المنصات الرقمية، بدأ العديد من البنوك المركزية في استكشاف آفاق العملات الرقمية، ويمكن أن يكون لذلك آثار بعيدة المدى.
وأكد أن تكاليف المعاملات التي لا تُذكر يمكن أن تعني توافر موارد واسعة النطاق لإعادة توجيهها نحو مشاريع أكثر فائدة.
وأشار إلى أن هذه الجائحة أدت إلى أن الإسراع بوتيرة تنفيذ التقنيات الرقمية في مختلف القطاعات من الأشياء المهمة اقتصادياً، ولذلك تقوم الشركات بتعجيل تحولها نحو النماذج الرقمية سواء من تجربة العملاء وعروض الأعمال أو النماذج التنظيمية وتفاعلات سلسلة التوريد، مشيراً إلى أنه مع هذا التحول ارتفعت الحاجة إلى الاستثمار في الأمن السيبراني، وازدادت رسائل التصيد وهجمات انتزاع الفدية عبر البريد الإلكتروني.
ولفت إلى أن إهمال ذلك يمكن أن يؤدي إلى تداعيات واسعة النطاق، بما في ذلك تداعيات قانونية وتشغيلية، والأهم من ذلك تداعيات على السمعة، لافتاً إلى أن الشركات تستثمر بكثافة في هذا المجال كي تتمكن من التخفيف من حدة التهديد وضمان استمرارية الأعمال.
وذكر العدو أن الأمن الغذائي أصبح مسألة أمن قومي بالنسبة إلى الحكومات منذ اندلاع الجائحة، إذ سلط ارتفاع أسعار التجزئة الناجم عن محدودية إنتاج الأغذية والقيود المفروضة على سلسلة التوريد الضوء على الاستثمار في الزراعة المحلية، وزيادة مخزونات الأغذية.
تداعيات مستمرة
من جانبه، قال المتخصص في الشأن الاقتصاد العالمي علي حمودي، إن “جائحة كورونا لها تداعيات مستمرة على الاقتصاد العالمي، وقد تبقى بعض آثارها معنا إلى الأبد، بعد أن أجبرت العديد من الشركات على التحديث بسرعة والسماح للموظفين بالعمل من المنزل.
وأضاف حمودي أن “بعض الناس يدركون أننا لسنا بحاجة إلى البقاء في المكتب طوال الوقت… وأتوقع مزيداً من العمال الذين يتحولون إلى نموذج هجين، ويعملون في بعض الأحيان عن بُعد وفي بعض الأحيان يقدمون تقاريرهم إلى مكتب”.
وذكر أن الوباء أظهر نواحي عدة ذات أهمية، منها أن نكون متقاربين ومجتمعين، وأن كثيرين من الناس متلهفون لأن يكونوا معاً لأننا كائنات اجتماعية.
وتوقع أن أكبر العقبات الاقتصادية في السنوات المقبلة ستكون للشركات الصغيرة. وتابع حمودي “من الصعب العودة إلى الوضع الطبيعي بمجرد ألا يكون لديك عمل لفترة طويلة… من دون زيادة الدعم سنرى مزيداً من الشركات الصغيرة تغلق حتى بعد انتهاء الوباء”.
وقال إنه من غير المرجح أن يعود العالم بعد “كوفيد-19” إلى ما كان عليه قبل الأزمة. وهناك العديد من الاتجاهات الجارية بالفعل في الاقتصاد العالمي تتسارع بفعل تأثير الوباء.
الاقتصاد الرقمي
إلى ذلك، أفاد حمودي أن الاقتصاد الرقمي فرض نفسه بقوة خلال عام الجائحة وسيستمر في النمو السريع خلال المستقبل القريب، مع انتهاج السلوكيات الرقمية الجديدة مثل “العمل والتعليم عن بعد”، والتطبيب عن بعد، وخدمات التوصيل.
وأفاد حمودي أنه قد تتسارع التغييرات الهيكلية الأخرى بما في ذلك إضفاء الطابع الإقليمي على سلاسل التوريد، وسط ما تعانيه الشركات من عواقب مالية مدمرة بسبب الوباء، سواء بسبب تأثيرات سلسلة التوريد أو الإغلاق القسري أو التراجع الكبير في الإنفاق الاستهلاكي.
هناك جانباً إيجابياً، إذ يمكن أن تصبح الابتكارات التي يتم إجراؤها بدافع الضرورة ركائز دائمة للأعمال التجارية التي تساعدها على الازدهار بعد الوباء.
وتوقع أنه بعد رفع القيود المفروضة على النشاط، يجب على صناع السياسة المالية والمؤسسات الاستجابة لهذه التغييرات السلوكية وتلبية متطلبات العملاء الجديدة.
ورجح حمودي أن يصبح فحص الفيروسات جزءاً من حياتنا، تماماً مثل الإجراءات الأمنية التي أصبحت منتشرة في كل مكان بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، لذلك من المهم الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لاكتشاف تفشي الفيروس في المستقبل والتصدي له.
نمو الناتج العالمي
وبحسب تقرير الآفاق الاقتصادية الصادر عن البنك الدولي، سيظل الناتج أقل من اتجاهاته قبل تفشي فيروس كورونا، على الرغم من الانتعاش القوي في الولايات المتحدة والصين.
وأظهر التقرير الصادر حديثاً أن الاقتصاد العالمي سينمو بنسبة 5.6 في المئة عام 2021، وهي أسرع وتيرة للنمو بعد ركود اقتصادي خلال 80 عاماً. ما يعود في الأساس للانتعاش القوي الذي حققه عدد قليل من الاقتصادات الكبرى.
وأفاد البنك الدولي بأن كثيراً من بلدان الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية ما زالت تعاني من جائحة فيروس كورونا وتداعياتها.
وتابع البنك، “على الرغم من هذا الانتعاش، فإن الناتج العالمي سيكون أقل بنسبة 2 في المئة تقريباً، من توقعات ما قبل الجائحة بحلول نهاية العام الحالي… ولن تتراجع الخسائر في متوسط نصيب الفرد من الدخل بحلول عام 2022 في نحو ثلثي بلدان الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية”.
من جهته، قال رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس، “في حين توجد بوادر تثير التفاؤل بشأن الانتعاش العالمي، فإن الجائحة ما زالت تنشر الفقر والتفاوتات بين سكان البلدان النامية حول العالم… ولذلك فالجهود المنسقة عالمياً أمر أساسي لضمان تسريع وتيرة توزيع اللقاحات وتخفيف عبء الديون، لا سيما عن البلدان المنخفضة الدخل”.
وأضاف مالباس، أنه مع انحسار الأزمة الصحية، سيكون لزاماً على واضعي السياسات معالجة الآثار الدائمة للجائحة واتخاذ الخطوات اللازمة لتحفيز النمو الأخضر الشامل والقادر على مواجهة الصدمات، مع الحفاظ في الوقت نفسه على استقرار الاقتصاد الكلي.
المصدر عن اندبندت عربية لندن