هل من حكامة لتدبير العمل السياسي: نخب ضد التنمية

بقلم / ذ. ادريس الاندلسي

نعيش فترة ضياع سياسي بكل ما لهذه الكلمة من معنى. هدر الزمن المتعلق بالشأن العام أصبح مقبولا  و متفق على مردوديته لضمان المواقع  و المنافع. تمت السيطرة على كل المؤسسات الترابية بسهولة خرافية. وصل الفاشل دراسيا إلى البرلمان  و لرئاسة جهة  و إقليم  و مدينة.  و كل هذا يجري  في ظل خطاب متداول في أجهزة الدولة  و الحكومة و الأحزاب على ضرورة تخليق الحياة السياسية و إستراتيجية التمكن من فتح الأبواب أمام نخبة شابة  و ذات تكوين لكي ترفع من شأن التدبير العام إلى مستويات تليق بمضامين التوجيهات الملكية للوصول إلى مستوى اقتصادات الدول الصاعدة. الكذاب الاشر له مطلق الحرية  و مطلق التصرف في القرار  و مطلق تبخيس الثقافة  و قيم التعليم و التربية.  مشهد كهذا يمشي الهوينا  و لا يبالي.  و لكن الوطن فوق منطق اللامبالاة  و الحاجة كبيرة إلى  وعي عميق بشروط  العبور إلى مرحلة متقدمة و شاملة للتطور  و التنمية الاجتماعية و الثقافية و الفنية و الإقتصادية.

حين اتفحص المشهد السياسي، أفقد كل طموحاتي لأرى بلدي يسارع الخطى في إتجاه الصعود الاقتصادي. أخجل كثيرا حين أتابع ما يجري بالبرلمان الذي كان مصنعا لرجالات السياسة  و أصبح  مرتعا لأشباهالسياسيين و جزء كبير منهم متابع قضائيا و قادة العمل السياسي الذين أصبحوا  و أصبح  الحمد لله  غدوا أصحاب قرار. أصبح كذلك رؤساء فرق كرة القدم نوابا للرئيس و تكوينهم الرياضي لا ينم عن وعي بأهمية الرياضة  و بالأحرى بأهمية السياسة. أصبح الجهل بالسياسة الثقافية عنوانا على مسايرة موجات تبخيس الثقافة. و كاد الجهل بالسياسة  و الثقافة و  التاريخ أن  يصبح الوسيلة المثلى لتحمل المسؤوليات الوزارية  و السيطرة على قيادة العمل الحزبي بالسطوة و المال و تجييش الكائنات الانتخابية الهجينة و البعيدة عن الأصالة. هكذا أستمر النموذج الذي ارساه  الوزير الأكبر الراحل إدريس البصري  منهجا في تلوين النخب سياسيا  و اخضاعها لمسايرة  كل الاختيارات و انخراطها في كل  المناورات و قدرتها على صنع الحدث.  قد نستسهل دورها اليوم  و قد نفتقد لوسائل ضبطها مستقبلا.

خضعت شخصيات كثيرة من اليسار  و الوسط  و شيء مما يمكن أن نسميه اليمين لخطاب سماه أصحابه ” بالديمقراطيين الجدد أو  القدامى”. الأمر تم تسويقه على أنه بناء سياسي لمواجهة المد الإسلاموي. و بعد شهور تبين أن الأمر يتعلق بتجديد ما مضى من تجارب لإعادة إنتاج ” جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ” و تجربة ” التجمع الوطني للأحرار ” و تجربة ” الإتحاد الدستوري “. فشلت قيادات هذه التجارب المصطنعة  و غابت عن الساحة كما حصل لأحمد رضا كديرة  و للمحجوبي احرضان  و للخطيب  و لأحمد عصمان  و لأرسلان الجديدي  و للعديد ممن لبسوا جبة التغيير عبر حزب الأصالة و المعاصرة كبن عدي  و الدكتور بيد الله  و الباكوري  و بن شماس  و الياس العمري و من المحامي  وهبي  و اللائحة مرشحة لتتجدد  وفقا للقرار… و لصيرورة قد لا تخضع للذكاء الاصطناعي.

وتستمر الاخفاقات في صنع الأحزاب و الكائنات الحزبية  و يستمر معها الفشل في ربط التطور بالتنمية. نعم سجلنا سياسة ملكية غيرت وجه المغرب اقتصاديا.  و الكل يعترف بالمنجزات في مجال الطرق  و الموانئ  و المطارات  و كل البنيات التحتية.  و لكن هذا التطور  الكمي لم تصاحبه تنمية الإنسان المغربي.  نتكلم هنا عن التعليم و  الثقافة  و ادماج العالم القروي في منظومة  التثقيف  و التربية  و الولوج إلى كافة الخدمات. في زمن خلا، كانت القوافل السينمائية تجوب القرى  و المدن.  كانت القوافل الصحية تغطي كافة مكونات الخريطة المدرسية  و كانت المخيمات الصيفية تستقبل اعدادا كبيرة من الأطفال و  الشباب  و تؤطرهم تربويا  و وطنيا.  

وزراء اليوم ينظرون إلى الثقافة  و التربية الوطنية عبر المخيمات بعقلية المدبر التقنوقراطي الذي لا علاقة له بالشأن التربوي.  من عاش تجربة المخيمات سوف يقدر كلمة كبيرة و عميقة المعنى  و هي أن  المخيم  ” مصنع للرجال “. تم مسخ المخيمات و دور  الشباب و الأنشطة الثقافية و  مشاريع القراءة للجميع  و جمعيات الاوراش الشبابية التي لا علاقة لها بمحاربة البطالة.  تم تبخيس ضخامة  و نوعية  عطاءات مسرح الهواة الذي كان منبعا للفكر الخلاق  و للإبداع الفني عالي المستوى. من رحم هذا المسرح  ولدت التجربة الغيوانية  و مسرح عبد الكريم برشيد الاحتفالي و تعاطى الشباب مع قضايا الوطن بجرأة قادتهم إلى سجن مكناس بعد مهرجان كانت العيون تتصيد  ما يشبه هفواته ” الخارجة عن النص “.  الثقافة يا ساسة هذا اليوم البئيس هي الوسيلة الوحيدة لكي تلتقي مشاريع البنيات التحتية  بمشاريع البنيات الثقافية و العقلية  و النفسية.  حين نبني الطريق نسعى للاستجابة لحاجيات مواطن و لكن أيضا لكي نجعله يتعامل معها  و مع كل  المرافق العمومية بكثير من الوعي بأهميتها.  و هذا الطموح المشروع لا يمكن أن يحصل في وجود ” نخبة” لا تفقه ثقافيا  و همها اغتناء سريع  و وصول أسرع إلى مراكز القرار.  هؤلاء هم أعداء للوطن و يجب التخلص منهم بالقانون أمام  المحاكم  و سد الطريق أمامهم لكي لا ينفذوا إلى المسؤولية العمومية. قد نبني كل السدود  و القناطر  و الطرق السيارة  و قد نجد صعوبة كبيرة في بناء المواطن. الثقافة  و التربية لزرع قيم في عمق تربة الوطن هي الضمان لتحويل الثقافة و التربية إلى آليات للتغيير  من أجل رفعة الوطن.

و هكذا يمكن خلق الأمل في غد أفضل لتغييب تلك الكائنات الغريبة  و المستفزة  و المستغلة لخيرات الوطن بدعم من قوى متحكمة في كل القرارات.  لقد أصبح من اللازم مناصرة رغبة المواطن في التغيير الحقيقي. المغرب واحد لشعب واحد  و توزيع عادل لخيراته.  كفى من الامتيازات الطبقية  و كل ما يعيق التنمية الحقيقية لبلادنا العادلة.  كل ما يعيق هذا المشروع لا يمكنه إلا أن يؤجج الاحتقانات الإجتماعية التي تعكس غياب و ضعف العدالة الإجتماعية. بلادنا في حاجة إلى المزيد من الإصلاحات لكي تتم محاربة المتطفلين على السياسة و  على منظومة العدالة  و على كل الحالات التي تعصف بالقوة الشرائية للمواطنين.   الثقافة الديمقراطية ليست شعارا و لكنها حلا لمواجهة عنف من يستغل الوطن و المواطن. الخطر على الوطن لا يشكله العامل  و الطالب  و الفلاح و لكن العابثون بالوطن هم من يعيشون على الريع  و الرشوة  و الامتيازات  و مقايضة مواقفهم بالاستفادة من الريع.  لنا جنود مرابطة على الثغور صامدون  و مكتفون بالقليل من الماء  و الخبز لكنهم يحملون الوطن في قلوبهم و لا يساومون. قال الشاعر عند نهاية فيلم ” كفر قاسم ” الذي أعاد تمثيل مجزة ضد عزل في هذا ” الكفر”: إنني عدت من الموت لأحيا  و اغني

إنني مندوب جرح لا يساوم

علمتني ضربة الجلاد أن  أمشي على جرحي  فأقاوم.”

فلنقاوم كل من يعبث بالمصالح العليا للوطن و يعمل على خلق الكراهية في قلب المواطنين المحبين لوطنهم.  لا يريدون الرفاهية  و القصور  و إنما حد مشروع للعدالة الإجتماعية. الوعي بضرورة الثقافة أعلى درجات الوعي.  و للموضوع بقية.