أوروبا والأوقات الصعبة وثمن الحرية.

تكاثرت في الآونة الأخيرة تحذيرات القادة الأوروبيين ودعواتهم لمواطنيهم بضرورة الإستعداد لتحمل أوقات صعبة قادمة، حيث قال ايمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي مؤخراً أن الأوقات الأصعب قادمة، وأن معاناة الأسر الفرنسية جراء التضخم الناجم عن إضطرابات سلاسل الإنتاج وارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات الفائدة من دون أي بوادر تحسن تلوح في الأفق، ليس سوى قليل من كثير قادم. وقال ماكرون أن مانمر به هو تحول كبير يمثل نهاية عصر الوفرة سواء كانت نقدية أو منتجات تقنية أو مواد أولية أو مياه. جوزيب بوريل مفوض الأمن والسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي قال أيضاً أن الأسابيع والأشهر المقبلة ستكون صعبة للغاية داعياً الأوروبيين للاستعداد لـ“دفع ضمن الحرية والأمن“، وقال بوريل: “نعم، الأسابيع والأشهر القادمة ستكون صعبة للغاية.

أولا وقبل كل شيء، بالنسبة للأوكرانيين الذين يدفعون الثمن حياتهم، وكذلك على جميع الأوروبيين الآخرين. ولكن لا يمكننا تقليل إلتزاماتنا أو إضعاف عزيمتنا، حتى عندما يرتفع الثمن. مستقبل الديمقراطية الأخوية والأمن الأوروبي وحتى العالمي على المحك. يجب أن نكون مستعدين لدفع هذا الثمن: ثمن حريتنا المشتركة وأمننا المشترك“.

هذا الخطاب لن يلقى بالتأكيد قبولاً من المواطن الأوروبي، فكلمات ماكرون التي جاءت خلال إجتماع أسبوعي لمجلس الوزراء وتم بثه مباشرة بشكل استثنائي لم تقابل سوى بدعوة منظمات عدة للتعبئة والإضراب في نهاية الشهر الجاري. كما تعكس استطلاعات الرأي تراجع الدعم الشعبي الفرنسي لسياسة دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، حيث أجرت إحدى المحطات الاذاعية الفرنسية إستطلاعاً مؤخراً على موقعها بخصوص دعم فرنسا لأوكرانيا في الحرب ضد روسيا، حيث رفض نحو 87% من المستطلعة أرائهم مواصلة دعم أوكرانيا عسكرياً، بينما بلغت نسبة المصوتين بـ“نعم” نحو 8% فقط.

لا أحد في أوروبا سيفكر في تحمل الأوقات الصعبة دعما لما يصفه الغرب بثمن الحرية، ولكن ما سيحدث واقعياً ـ على الأرجح ـ قد يضع نهاية لأمور كثيرة، لاسيما أن تداعيات الأزمة الأوكرانية جاءت في ظل عدم التعافي من وباء “كورونا” ويتزامن مع أسوأ موجة جفاف تشهدها أوروبا منذ 500 عام تقريباً بحسب مركز البحوث الأوروبي المشترك، حيث يعاني أكثر من نصف أراضي الإتحاد الأوروبي (64%) موجة جفاف تؤثر بأشكال مختلفة على حياة الأوروبيين.

الحاصل أن هناك كرة ثلج ستكبر مع الوقت داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تريد فرنسا وألمانيا إنهاء الحرب في أوكرانيا بأسرع وقت ممكن بالطرق الدبلوماسية، وهو ما يتعارض تماماً مع رغبة دول وسط وشرق أوروبا في مواصلة دعم أوكرانيا ضد روسيا، وهو موقف يتماهى مع الموقف الأمريكي، ولهذا تحتفظ باريس وبرلين بموقفهما لنفسيهما في الوقت الراهن حفاظاً على وحدة الصف الأوروبي، ولكن إلى أي مدى سيلتزمان الصمت ويؤثران المصلحة الأوروبية العليا؟.

تأثيرات أزمة أوكرانيا وتداعياتها السلبية المؤثرة لن تتوقف خلال المدى القريب، حتى لو إنتهت الحرب اليوم، فالحرب التي ستتسبب في أكبر ارتفاع مفاجىء في أسعار السلع من سبعينيات القرن الماضي كما يقول البنك الدولي، لن ينتهي بجرة قلم أو توقيع على اتفاق تسوية سياسية، والآثار الإقتصادية و الإنسانية الكبيرة للحرب عالمياً تحتاج وقت لمعالجتها، لأن خروج الشركات الغربية من روسيا وأزمة سلاسل التوريد وإرتفاع أسعار مواد الطاقة كلها عوامل لن تجد طريقها للحل بسهولة، ناهيك عن أن الأحوال الجوية السيئة في الصين وأمريكا الشمالية تفاقم بدورها آثار الأزمة الأوكرانية.

الأوقات الصعبة القادمة لن تنتظر الشعوب الأوروبية فقط كما يتوقع الساسة، بل تنتظر القادة والدول أيضاً، وتعد إختباراً مصيرياً صعباً للاتحاد الأوروبي كمظلة تلتقي تحتها أوروبا الموحدة.